اعطني خبرا ومسرحا

يعاودنا الحنين حين ندخل مسرح الدسمة، ذلك المكان المحفور في الذاكرة، لنشم فيه عبق الماضي ممزوجاً بغبار الحاضر... هنا كنا ننتمي... هنا كانت خشبة المسرح شاهدة على ضحكاتنا... انفعالاتنا... تصفيقنا... هكذا كنا قبل أن يستفحل المستوى الهابط للمسرح الاستهلاكي المنحدر المضمون الذي أضر كثيراً بالذائقة الفنية، بسبب ذهنية الوصاية التي فرضت الرقابة، وقضت على ما تبقى من حريات كفلها الدستور... حين تحالفت الحكومات مع القوى الظلامية... فاغتالوا الإبداع الفني وقتلوا المسرح، أبوالفنون وأقدمها، بعد أن كان سبباً في نهضة البلد ورقيها... فقادوا البلد إلى الخلف... ليلغى المسرح المدرسي ويسيطر الجهل والخرافة بعد أن أطفئت أنوار المسرح الهادف... فزحف الظلام إلى مسامات الحياة وشرايينها وأسدلت الستائر على مسرح التنوير.

أتينا إلى مسرح الدسمة (وهو آخر مسرح أنشئ قبل حوالي ثلاثة عقود) لنحضر احتفالية اليوم العالمي للمسرح التي رعاها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، في جو مليء بزفرات الألم لواقع مسرحنا المتردي الذي غُيب دوره وأُهمل... وسمعنا خطاب أمين عام المجلس بدر الرفاعي الذي قال إن المسرح يلعب 'دوراً تثقيفياً وتنويرياً: تلك البوابة الواسعة التي دخلت من خلالها أوروبا عصور التقدم والرقي والنهضة... بعيداً عن الخرافات وجهالات عصور ما قبل العلم الحديث... فهل نعجب بعد أن غيب دور المسرح، أو كاد، أن نشهد انتشاراً للأفكار المتطرفة والجدل المستمر حول أحداث مضت وقضايا لم يعد لها وجود إلا في الكتب الغابرة!'... وقد أعاد الأمين العام إحياء الأمل فينا حين كشف عن قرار المجلس الوطني 'مقاومة الموت البطيء للمسرح'، وأن يشعل شمعة من خلال إدراج مشروع كفيل باستعادة النهضة المسرحية والموسيقية في الخطة التنموية للدولة، كإنشاء مسرح السالمية والمجمع الثقافي وأربع فرق مسرحية.

وكان ختام الاحتفالية عرض مسرحية 'دراما الشحاذين' للمؤلف المبدع بدر محارب والمخرج المتألق عبدالعزيز صفر، لنشاهد نصاً كوميدياً راقياً، وإخراجاً حرفياً أيقظ الكلمات وأحياها على الخشبة، وأداء تمثيلياً متقناً تميز بالتناغم والانسجام الحركي. تدور أحداث المسرحية حول مسرح مهجور مهترئ ومهمل يتخذه الشحاذون مأوى لهم، فيتصارعون عليه، ليكتشف أمرهم شرطي كان يبحث عن أحدهم لسرقته حقيبة امرأة، فيخدعونه بإقناعه أنهم ممثلون يجرون بروفات مسرحية، ليتابع هو شخصيا 'البروفات' مبدياً بعض التعليقات عليها، وتنتهي بعد ذلك الأحداث بمأساة لم تحرك للشرطي ساكناً لأنه اعتبرها مجرد تمثيل... فصفق لهم وذهب لحال سبيله، لتجسد القصة دلالة رمزية لهموم واقع المسرح حين هُجر وغابت رسالته فتطفل عليه المنتفعون وأفسدوه.

تلك الرسالة الأخلاقية التي طالما أثرت في الضمير العالمي وقيمه وأفكاره... ففتح روادها المجتمع على مساحات كبيرة من التسامح والمعرفة كبرنارد شو، ذلك المبدع الذي كتب للمسرح لست وأربعين سنة بأسلوبه الهزلي اللاذع، فتمكن من خلاله من إيصال رسالته الهادفة إلى العقول والقلوب بشكل لا يخلو من المتعة والتشويق واحترام العقول، أما الشخصية الأخرى التي خُلدت في الذاكرة الكويتية، فهو المخرج الراحل صقر الرشود، الذي أسس فريقاً مسرحياً كان لإنجازاته المبدعة الدور البارز في تنمية الوعي الثقافي وارتقاء الحس الجمالي في وقت ازدهرت فيه الحرية والثقافة.

فصدقت المقولة الشهيرة 'أعطني خبزاً ومسرحاً، أعطيك شعباً مثقفاً'.